Tuesday, July 5, 2016

ثقوب الأردن السوداء د. م. عمار سليم الخوالده

ثقوب الأردن السوداء

د. م. عمار سليم الخوالده
تاريخ النشر 10-01-2013
Ammar Alkhawaldeh


الثقوب السوداء، كما سماها عالم الفيزياء الفذ جون ويلر هي ما يتبقى من النجم بعد نفاد وقوده، إذ تنهار بنية المادة كما نعرفها فتتحول عمالقة النجوم و التي تكبر بحجمها الشمس مرات عديدة الى كتل متناهية الصغر ذات كثافة هائلة تمنحها قوة جذب ساحقة تبتلع اي شيء في طريقها مهما كبر حجمه فلا ينجو منها شيء حتى الضوء نفسه .. اجل، الضوء الذي ينير دروب البشر و يفتح أمامهم الآفاق تبتلعه ثقوب العتمة تلك بظلامها الدامس و حقدها الاسود تماما مثلما يبتلع المفسدون و حماتهم خيرات هذا الوطن و قوت كادحيه

كنت و منذ الإعدادية و على ولعي المفرط بالفيزياء، و الفلكية منها على وجه الخصوص قد عانيت الأمرّين علني افهم كنه تلك "البواليع" الكونية فلم افلح .. قرأت كتاب الكون و الثقوب السوداء لرؤوف وصفي وأتبعته ببلوغ سن الرشد في المجرة لتمثي فيرس و ألحقته بالبنية الواسعة النطاق للزمان و المكان لستيفن هوكنج فلم أزدد الا عنتا و لم أجن الا حيرة حتى فتح الله علي بما جرت به المقادير في وطني المكلوم خلال العقود القليلة المنصرمة، و الاخير منها على التعيين .. رأيت المنح و ملياراتها تتدفق على البلد فيختفي جلها، و أطرقت فلم أر لمليارات تجبى من الضرائب و الجمارك و عوائد المؤسسات اثر يستبان ولا نفع يلتمس .. رأيت ثقوبا حالكة السواد من المفسدين و حماتهم تلوك ثروات هذا البلد الطاهر و تحطم بنية مؤسساته الواحدة تلو الاخرى حتى تركته مضرجا بمديونية تنوء بحملها الجبال، و مسربلا بمساحات شاسعة من الفقر و الحرمان .. أيقنت حينها ان انهيار بنية المادة في النجوم يحولها الى ثقوب سوداء لا تبقي شيئا في طريقها و لا تذر، تماماً مثلما تنهار بنية بعض بني جلدتنا الأخلاقية فيتحولون الى وحوش كاسرة تنهش جسد هذا الوطن و تلطخ جبينه و تستأثر بمقدرات الكادحين الأطهار من ابناءه البررة

هالني تشابه الحالين، على أني استعظمت بؤر السواد في وطني على نظيراتها الفلكية فهي تقتات على أموالنا نحن البسطاء ولا تترك لنا الا فتاتا تسميه مكارما. هالني ذلك و أقضّ مضجعي، فكلما التفتُّ لتضميد جرح ألمَّ بصديق او جبْر كسر تفرد بقريب، دهشت لهول المشهد و فداحة الخطب و كيف آلت حال العاضين منا على نواجذ هذا الوطن الى ما آلت اليه من ضنك و عسرة على أيدي البغاث الذين عاثوا فينا فسادا و أثخنوا في وطننا الجراح فلكأنما رمونا عن قوس واحدة فلا حول لنا او قوة. دهشت لحجم الفجيعة تلك و لكني أسقط في يدي لحجم الاستهانة بأمانة الحكم، و التفريط بحوائج الناس ... الامانة تلك، التي عرضت على السماوات و الارض والجبال فأبين ان يحملنها، ولي قلادتها من لم يرعووا عن غيهم فاستباحوا كل محرم ووطئوا كل ذي شبهه كانهم أسد هصور

راعني ذاك الاستخفاف و اذهلتني تلك الجرأة على أقوات العباد و مصالحهم فوقفت فاغرا فاهي و تساءلت بحرقة، أين هؤلاء من كلمات نثرت كالدرّ جادت بها قريحة هشام بن عبد الملك موصيا حفيده الغِر آنذاك عبد الرحمن بن معاوية صقر قريش "و اعلم يا أبا المطرف ان المال عصب الدولة و ضبط دفاتره و موارده و مصاريفه و ديوانه من اولى مهمات الحكم فمنه نفقة الحرب و رخاء السلم و لذا كان على ولي الامر أن يراجعه بنفسه و يضبطه بعلمه فإن عرف منه عماله ذلك ساروا على منهاجه و يأس الشيطان من أن يغري أحدهم بالخيانة لانه علم أنه لا ينجو

هكذا اذا يساس الناس و تدبر أمورهم فعندما يجعل أولو الامر من سلوكهم مثالا للآخرين ينعدل حال الرعية و من يدير شؤونهم ... و لذا نجد ابن عبد الملك قد استرسل في الإبانة لحفيده الذي توسم فيه الخير و رأى فيه علامات النبوغ و التميز على صغر سنه فأفصح له ان الثقة لا تكون عمياء فقال "لا تقولن هذا رجل هو اهل للثقة فلا نراجعه على عمله كأننا نستخونه فان المال حلو غرار و للشيطان طرقه و الانسان يتأول لنفسه ليسوغ زلته فلا تعن الشيطان على الناس فإنك اذ تقطع عليهم اسباب الفتنة بالمال تحييهم و تمنعهم من بطشك إذا خانوا" هذا ما أوصى به هشام بن عبد الملك حفيده قبل قرون و هذا ما قامت عليه فلسفة الرئيس الامريكي الراحل رونالد ريغان اذ كان يردد دائماً "ثق و لكن تحقق"، فلم تركنا الحبل لزمرة المفسدين على الغارب و لم نتجشم عناء البحث و التحقق حتى تحول الشعب الى ثلة من الكادحين بُحّت اصواتهم على مدى حولين وهم يطالبون بالإصلاح و يلعنون الفساد و المفسدين صباح مساء حتى صح في ذمهم للمفسدين قول الشاعر

ولقد قتلتك بالهجاء فلم تمت ان الكلاب طويلة الأعمار

محزن ان يرزح هذا الشعب تحت وطأة الفساد لعقود ثم يطلب منه تسديد فواتير ما امتدت اليه يد الإثم و الضلال دون ان ينعم بأبسط حقوقه في اختيار من يمثله او يسوس أمره. محزن ان نرى خمس حكومات منزوعة الولاية لم يبلغ عمرها مجتمعة سن فطام طفل ("و فصاله في عامين" -لقمان ١٤) تُنصّب و كأن جريرا لم يعن غيرها بقوله

و يقضى الامر حين تغيب تيم و لا يستأذنون و هم شهود

محزن الى حد البكاء أن يبذل المفسدون و حماتهم الغالي والنفيس من أجل وأد أحلام جيل جديد تواق للحرية و العيش الكريم ثم نراهم يتشدقون أمام الملأ و على شاشات التلفزة عن رؤاهم الإصلاحية و انفتاحهم المزعوم. مقرف و الى حد الغثيان أن عامين من الحراك و الأنين لم يفلحا في فك وثاق المادة ٢٤ من الدستور (الامة مصدر السلطات) بعد ان سطت عليها زمرة الفساد و اختطفتها ثلة المفسدين لعقود، و كبلتها بأوثق القيود .. محزن و محزن و محزن أن يؤول حال المنادين بإصلاح ما اعوج من أمرنا الى ما آلت اليه حال صاحبنا الذي قال وهو يشكو وقوف المبغضين حائلا بينه و بين حبيبته

لكالمرتجي ظل الغمامة كلما تبوء منها للمقيل اضمحلتِ
شاهد المزيد
التعليقات

No comments :

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.

Ammar Alkhawaldeh